امتحان الله لعلي صلوات الله عليه في حياة النبي صلوات الله عليه وآله وبعد وفاته ( استشهاده )..
عن أبي جعفر عليه السلام قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أميرالمؤمنين إني اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ، قال : سل عما بدالك يا أخا اليهود ، قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر امته من بعده وأن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ويعمل به في امته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الاوصياء في حياة الانبياء ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الاوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال له علي عليه السلام : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم ، قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أجبتك لتسلمن قال : نعم .
فقال له علي عليه السلام : إن الله عز وجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الانبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الاوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الانبياء عليهم السلام ، ثم يمتحن الاوصياء بعد وفاة الانبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالانبياء ، وقد أكمل لهم السعادة ، قال له رأس اليهود صدقت يا أميرالمؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلى الله عليه وآله من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي عليه السلام بيده وقال : انهض بنا انبئك بذلك [ يا أخا اليهود ] فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أميرالمؤمنين ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم ، فقام إليه الاشتر فقال : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك فو الله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الارض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا صلى الله عليه وآله نبينا سواه ، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا .
فجلس علي عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال [ له ] : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن ، فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعا ، قال : وفيم وفيم يا أميرالمؤمنين ؟ قال : أما أولهن فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس مقصين له [ ومبغضين ] ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم يحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الارض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل ثم أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة ، و إبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا لنفسي بأن اقتل دونه ، فمضى لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعة وابن عتبة كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله مع صاحبي رضي الله عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سنا وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليدا وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي واستشهد ابن عمي في ذلك اليوم رحمة الله عليه ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال علي عليه السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في سد احد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، و بقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرون والانصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عزوجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله نيفا وسبعين جرحة منها هذه وهذه ثم ألقى رداءه وأمر يده على جراحاته وكان مني في ذلك ما على الله عز وجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن قريشا والعرب تجمعت وعقدت بينها عقدا وميثاقا لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوها إلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا وضرب بيده إلى ذي الفقار فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقا علي من ابن عبدود ، فقتله الله عزوجل بيدي والعرب لا تعدلها فارسا غيره ، وضربني هذه الضربة وأومأ بيده إلى هامته فهزم الله قريشا والعرب بذلك وبما كان مني [ فيهم ] من النكاية ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فإنا وردنا مع رسول الله مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه ، حتى إذا احمرت الحدق ودعيت إلى النزال و أهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنة ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ثم التفت إلى أصحابه فقال أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة لتقرأ عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجهه به ، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهديد والوعيد ، ويبدي إلي البغضاء ، و يظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهن ربي عز وجل مع نبيه صلى الله عليه وآله فوجدني فيها كلها بمنه مطيعا ليس لاحد فيها مثل الذي لي ، ولو شئت لوصفت ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية ، فقالوا : يا أميرالمؤمنين صدقت والله لقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ، وأسعدك بأن جعلك أخاه : تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها والاحوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ومما ليس لاحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ومن شهدك بعده ، فأخبرنا يا أميرالمؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا فاحتملته وصبرت عليه ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منا به وظهورا منا عليه ، إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ونعمته صبورا ، أما أولهن يا أخا اليهود فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول الله ، هو رباني صغيرا وبوأني كبيرا ، وكفاني العيلة وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والوالد والاهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مالم أكن أظن الجبال لوحملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع ، وسائر الناس من غير بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله علي ، وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابرا محتسبا ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني في حياته على جميع امته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لامري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره إذا حضرته والامير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الامر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ولا بعد وفاته ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا من أفناء العرب ولا من الاوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته ولا أحدا ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والانصار و المسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئا مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر امته أن يمضي جيش اسامة ولا يختلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الايعاز وأكدفيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلى الله عليه وآله إلا برجال من بعث اسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا بمواضعهم وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ورسوله في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لانفسهم عقدا ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لاحد منا بني عبدالمطلب أو مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ، فعلوا ذلك وأنا برسول الله مشغول وبتجهيزه عن سائر الاشياء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك و تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين, فقال عليه السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذرا في كل أيامه ويلزم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ! فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفوا هنيئا من غير أن احدث في الاسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثا في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلانا يقول فيها نعم وفلانا يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، و جماعة من خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الاسلام يأتوني عودا وبدء وعلانية وسرا فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا وصبرا قليلا لعل الله يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وطمع في الامر بعده من ليس له بأهل ، فقال كل قوم : منا أمير ! وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الامر ، فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الامر بعده لصاحبه فكانت هذه اخت اختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله من مضى رحمه الله ومن بقي ممن أخره الله من اجتمع فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الاول صبرا واحتسابا و يقينا وإشفاقا من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله باللين مرة وبالشدة اخرى و بالبذل مرة وبالسيف اخرى ، حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر و الفرار والشبع والري واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا [ و ] يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، وتطوي الليالي والايام جوعا عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاء الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله صلى الله عليه وآله أرباب النعم والاموال تألفا منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجائها ، لاني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على أحد منزلتين : إما متبع مقاتل وإما مقتول إن [ لم ] يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم أنني منه بمنزلة هارون من موسى محل بهم في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته ، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ومن بحضرتك منهم بأني كنت أكثر عددا وأعز عشيرة وأمنع رجالا وأطوع أمرا وأوضح حجة وأكثر في هذا الدين مناقب وآثارا لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض محمد عليه السلام وإن ولاية الامة في يده وفي بيته لا في يد الاولى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولاهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالامر من بعده من غيرهم في جميع الخصال ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ولا يطمع في الامر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوما أنا سادسهم ولم يستوفي بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها حاكما علينا ! وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الامر فيهم إن لم ينفذوا أمره ! وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الامارة وبسط الايدي والالسن في الامر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه التمس مني شرطا أن اصيرها له بعدي ! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان ! رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلا عمن دونهم ، لا يبدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه ، ثم لم تطل الايام بالمستبد بالامر ابن عفان حتى كفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على هذه يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها وأفظع وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما امض وأبلغ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عزوجل علي حقي ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعي من اختيها قبلها ورأيت الابقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدى ، ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب : 23]" حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا .
وما سكتني عن ابن عفان وحثني على الامساك إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الاباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الاقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من ( لا ) ولا ( نعم ) ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقاله الاموال والمرح في الارض ، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة فلما لم يجدوا عندي تعللوا الاعاليل ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني وثبوا بالمرأة علي وأنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم ، جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالاعذار والانذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي والترك لنقضهم عهد الله عز وجل في ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع ، وذكرت فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلا وتماديا وغيا ، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة ولهم الحسرة وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بدا ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك ، وأظهرته آخرا مثل الذي وسعني منه أولا من الاغضاء والامساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معينا لهم علي بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الاطراف وسفك الدماء وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال كعادة بني الاصفر ومن مضى من ملوك سبأ والامم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولا آخرا ، وأهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الامر إلا بعد ما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت ، وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ التمسوه بعد أن أعرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت عليها ، فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيدا ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فتحكيمهم ومحاربة ابن آكلة الاكباد وهو طليق ابن طليق ، معاند لله عز وجل ولرسوله والمؤمنين منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله إلى أن فتح [ الله ] عليه مكة عنوة ، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالامس أول من سلم علي بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إلي حقي وأقره في معدنه وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعا وفي أمانة حملناها حاكما كر على العاصي بن العاص فاستماله فمال إليه ! ثم أقبل به بعد إذ أطمعه مصر! وحرام عليه أن يأخذ من الفئ دون قسمه درهما و حرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم فمن بايعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثا علينا مغيرا في البلاد شرقا وغربا ويمينا و شمالا ، والانباء تأتيني والاخبار ترد علي بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن اوليه البلاد التي هو بها لاداريه بما اوليه منها ! وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عز وجل في توليته لي مخرجا وأصبت لنفسي في ذلك عذرا ، فأعلمت الرأي في ذلك وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ولي وللمؤمنين فكان رأيه في ابن آكلة الاكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن ادخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الاشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ! فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تماديا شاورت من معي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله البدريين والذين ارتضى الله عزوجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، انفذ إليه من كل موضع كتبي واوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم علي ويتمنى علي الاماني ، ويشترط علي شروطا لا يرضاها الله عزوجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواما من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أبرارا ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ؟ والله لقد رأيتنا مع النبي وما تقدمنا خمسة إلا كان سادسهم ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم ! وانتحل دم عثمان ، ولعمر والله ما ألب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلما لم اجب إلى ما اشترط من ذلك كر مستعليا في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر ، فموه لهم أمرا فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عزوجل بعد الاعذار والانذار ، فلما لم يزده ذلك إلا تماديا وبغيا لقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على اعدائه وعدونا ، وراية رسول الله صلى الله عليه وآله بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل اقاتلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب ، فركب فرسه وقلب رايته ! لا يدري كيف يحتال ، فاستعان برأي ابن العاص ، فأشار إليه بإظهار المصاحف ورفعها على الاعلام والدعاء إلى ما فيها ، وقال : إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وبقيا وقد دعوك إلى كتاب الله أولا وهم مجيبوك إليه آخرا فأطاعه فيما أشار به عليه ، إذا رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء خيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ، فظنوا أن ابن آكلة الاكباد له الوفاء بما دعا إليه ، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه ، وإنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويت شئت أو أبيت ! حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان ! وادفعوه إلى ابن هند برمته ! فجهدت علم الله جهدي ولم أدع علة في نفسي إلا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الاشتر وعصبة من أهل بيتي ، فو الله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان وأومأ بيده إلى الحسن والحسين عليهما السلام فينقطع نسل رسول الله وذريته من امته ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده إلى عبدالله بن جعفر ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما فإني أعلم لو لا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عزوجل ، فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الامور وتخيروا الاحكام والآراء وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ! وما كنت احكم في دين الله أحدا إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن احكم رجلا من أهل بيتي أو رجلا ممن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه ، وأقبلت لا اسمي أحدا إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه وأقبل ابن هند يسومنا عسفا وما ذلك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكم تبرأت إلى الله عز وجل منهم ، وفوضت ذلك إليهم ، فقلدوه امرء فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الارض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندما ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ! قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عهد إلي أن اقاتل في آخر الزمان من أيامي قوما من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بحلافهم علي ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية فيهم ذو الثدية يختم لي بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لانفسهم من ذلك مخرجا إلا أن قالوا : كان ينبغي لاميرنا أن لا يتابع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ! فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لا حكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة واخرى بحروراء واخرى راكبة رأسها تخبط الارض شرقا حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتلته ، فخرجت إلى الاوليين واحدة بعد اخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعها غير ذلك ، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لو لا ما فعلوا لكانوا ركنا قويا وسدا منيعا ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ، ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبد منهم والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع اختيها والاحتذاء على مثالهما ، وشرعت في قتل من خالفها من المسلمين ، وتتابعت إلي الاخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة اوجه السفراء و النصحاء ، وأطلب العتبى بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة وأومأ بيده إلى الاشتر والاحنف بن قيس وسعيد بن قيس الارحبي والاشعث بن قيس الكندي فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ، له ثدي كثدي المرأة ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال ، أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام قدوفيت سبعا وسبعا يا أخا اليهود وبقيت الاخرى واوشك بها فكان قد.
فبكى أصحاب علي عليه السلام وبكى رأس اليهود ، وقالوا : يا أميرالمؤمنين أخبرنا بالاخرى فقال : الاخرى أن تخضب هذه وأومأ بيده إلى لحيته من هذه وأومأ بيده إلى هامته ,قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعا ، وأسلم رأس اليهود على يدي علي عليه السلام من ساعته ، ولم يزل مقيما حتى قتل أميرالمؤمنين عليه السلام واخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل راس اليهود حتى وقف على الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه ، فقال له : يا أبا محمد اقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي انزلت على موسى عليه السلام أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرما من ابن آدم قاتل أخيه ومن القدار عاقر ناقة ثمود .
(بحار الأنوار:ج38: 167)
عن أبي جعفر عليه السلام قال : أتى رأس اليهود علي بن أبي طالب أميرالمؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة فقال : يا أميرالمؤمنين إني اريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي ، قال : سل عما بدالك يا أخا اليهود ، قال : إنا نجد في الكتاب أن الله عز وجل إذا بعث نبيا أوحى إليه أن يتخذ من أهل بيته من يقوم بأمر امته من بعده وأن يعهد إليهم فيه عهدا يحتذى عليه ويعمل به في امته من بعده ، وأن الله عز وجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم ، فأخبرني كم يمتحن الله الاوصياء في حياة الانبياء ؟ وكم يمتحنهم بعد وفاتهم من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمر الاوصياء إذا رضي محنتهم ؟ فقال له علي عليه السلام : والله الذي لا إله غيره الذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أخبرتك بحق عما تسأل عنه لتقرن به ؟ قال : نعم ، قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى لئن أجبتك لتسلمن قال : نعم .
فقال له علي عليه السلام : إن الله عز وجل يمتحن الاوصياء في حياة الانبياء في سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم ، فإذا رضي طاعتهم ومحنتهم أمر الانبياء أن يتخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم ، ويصير طاعة الاوصياء في أعناق الامم ممن يقول بطاعة الانبياء عليهم السلام ، ثم يمتحن الاوصياء بعد وفاة الانبياء في سبعة مواطن ليبلو صبرهم ، فإذا رضي محنتهم ختم لهم بالسعادة ليلحقهم بالانبياء ، وقد أكمل لهم السعادة ، قال له رأس اليهود صدقت يا أميرالمؤمنين فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلى الله عليه وآله من مرة ؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرة ؟ وإلى ما يصير آخر أمرك ؟ فأخذ علي عليه السلام بيده وقال : انهض بنا انبئك بذلك [ يا أخا اليهود ] فقام إليه جماعة من أصحابه فقالوا : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك معه ، فقال : إني أخاف أن لا تحتمله قلوبكم ، قالوا : ولم ذاك يا أميرالمؤمنين ؟ قال : لامور بدت لي من كثير منكم ، فقام إليه الاشتر فقال : يا أميرالمؤمنين أنبئنا بذلك فو الله إنا لنعلم أنه ما على ظهر الارض وصي نبي سواك ، وإنا لنعلم أن الله لا يبعث بعد نبينا صلى الله عليه وآله نبينا سواه ، وإن طاعتك لفي أعناقنا موصولة بطاعة نبينا .
فجلس علي عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال [ له ] : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني في حياة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن ، فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بنعمة الله له مطيعا ، قال : وفيم وفيم يا أميرالمؤمنين ؟ قال : أما أولهن فإن الله عز وجل أوحى إلى نبينا وحمله الرسالة وأنا أحدث أهل بيتي سنا ، أخدمه في بيته وأسعى بين يديه في أمره ، فدعا صغير بني عبدالمطلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه وسائر الناس مقصين له [ ومبغضين ] ومخالفين عليه ، قد استعظموا ما أورده عليهم مما لم يحتمله قلوبهم وتدركه عقولهم ، فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعا إليه مسرعا مطيعا موقنا ، لم يتخالجني في ذلك شك ، فمكثنا بذلك ثلاث حجج وما على وجه الارض خلق يصلي أو يشهد لرسول الله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله وقد فعل ثم أقبل أميرالمؤمنين عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن قريشا لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلى الله عليه وآله حتى كان آخر ما اجتمعت في ذلك يوم الدار دار الندوة ، و إبليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف فلم تزل تضرب أمرها ظهر البطن حتى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كل فخذ من قريش رجل ثم يأخذ كل رجل منهم سيفه ثم يأتي النبي صلى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه فيضربونه جميعا بأسيافهم ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها ولم تسلمها ، فيمضي دمه هدرا ، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك وأخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها ، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار ، فأخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالخبر وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي ، فأسرعت إلى ذلك مطيعا له مسرورا لنفسي بأن اقتل دونه ، فمضى لوجهه واضطجعت في مضجعه ، وأقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها أن تقتل النبي صلى الله عليه وآله ، فلما استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي فدفعتهم عن نفسي بما قد علمه الله والناس ، ثم أقبل على أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن ابني ربيعة وابن عتبة كانوا فرسان قريش ، دعوا إلى البراز يوم بدر فلم يبرز لهم خلق من قريش ، فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله مع صاحبي رضي الله عنهما وقد فعل وأنا أحدث أصحابي سنا وأقلهم للحرب تجربة ، فقتل الله عز وجل بيدي وليدا وشيبة سوى من قتلت من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت ، وكان مني أكثر مما كان من أصحابي واستشهد ابن عمي في ذلك اليوم رحمة الله عليه ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال علي عليه السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن أهل مكة أقبلوا إلينا على بكرة أبيهم قد استحاشوا من يليهم من قبائل العرب وقريش طالبين بثار مشركي قريش في يوم بدر ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فذهب النبي صلى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في سد احد ، وأقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد ، واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممن بقي ما كان من الهزيمة ، و بقيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله ومضى المهاجرون والانصار إلى منازلهم من المدينة كل يقول : قتل النبي وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عزوجل وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله نيفا وسبعين جرحة منها هذه وهذه ثم ألقى رداءه وأمر يده على جراحاته وكان مني في ذلك ما على الله عز وجل ثوابه إن شاء الله ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا ، بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن قريشا والعرب تجمعت وعقدت بينها عقدا وميثاقا لاترجع من وجهها حتى تقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبدالمطلب ثم أقبلت بحدها وحديدها حتى أناخت علينا بالمدينة واثقة بأنفسها فيما توجهت له ، فهبط جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فأنبأه بذلك ، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والانصار ، فقدمت قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ، ترى في أنفسها القوة وفينا الضعف ، ترعد وتبرق ورسول الله صلى الله عليه وآله يدعوها إلى الله عزوجل ويناشدها بالقرابة و الرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلا عتوا ، وفارسها وفارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود ، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ، ويخطر برمحه مرة وبسيفه مرة ، لا يقدم عليه مقدم ولا يطمع فيه طامع ، ولا حمية تهيجه ولا بصيرة تشجعه ، فأنهضني إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وعممني بيده وأعطاني سيفه هذا وضرب بيده إلى ذي الفقار فخرجت إليه ونساء أهل المدينة بواك إشفاقا علي من ابن عبدود ، فقتله الله عزوجل بيدي والعرب لا تعدلها فارسا غيره ، وضربني هذه الضربة وأومأ بيده إلى هامته فهزم الله قريشا والعرب بذلك وبما كان مني [ فيهم ] من النكاية ، ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فإنا وردنا مع رسول الله مدينة أصحابك خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه ، حتى إذا احمرت الحدق ودعيت إلى النزال و أهمت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول يا أبا الحسن انهض ، فأنهضني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنة ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده ثم التفت إلى أصحابه فقال أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما توجه لفتح مكة أحب أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عز وجل آخرا كما دعاهم أولا ، فكتب إليهم كتابا يحذرهم فيه وينذرهم عذاب الله ، ويعدهم الصفح ويمنيهم مغفرة ربهم ، ونسخ لهم في آخره سورة براءة لتقرأ عليهم ، ثم عرض على جميع أصحابه المضي به فكلهم يرى التثاقل فيه ، فلما رأى ذلك ندب منهم رجلا فوجهه به ، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمد لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فأنبأني رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ووجهني بكتابه ورسالته إلى مكة ، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلا ولو قدر أن يضع على كل جبل مني إربا لفعل ، ولو أن يبذل في ذلك نفسه وأهله وولده وماله ، فبلغتهم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وقرأت عليهم كتابه ، فكلهم يلقاني بالتهديد والوعيد ، ويبدي إلي البغضاء ، و يظهر الشحناء من رجالهم ونسائهم ، فكان مني في ذلك ما قد رأيتم ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهن ربي عز وجل مع نبيه صلى الله عليه وآله فوجدني فيها كلها بمنه مطيعا ليس لاحد فيها مثل الذي لي ، ولو شئت لوصفت ذلك ، ولكن الله عز وجل نهى عن التزكية ، فقالوا : يا أميرالمؤمنين صدقت والله لقد أعطاك الله عز وجل الفضيلة بالقرابة من نبينا ، وأسعدك بأن جعلك أخاه : تنزل منه بمنزلة هارون من موسى ، وفضلك بالمواقف التي باشرتها والاحوال التي ركبتها ، و ذخر لك الذي ذكرت وأكثر منه مما لم تذكره ومما ليس لاحد من المسلمين مثله ، يقول ذلك من شهدك منا مع نبينا ومن شهدك بعده ، فأخبرنا يا أميرالمؤمنين ما امتحنك الله عز وجل به بعد نبينا فاحتملته وصبرت عليه ، فلو شئنا أن نصف ذلك لوصفناه علما منا به وظهورا منا عليه ، إلا أنا نحب أن نسمع منك ذلك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه .
فقال عليه السلام : يا أخا اليهود إن الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيه صلى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ونعمته صبورا ، أما أولهن يا أخا اليهود فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحد آنس به أو أعتمد عليه أو أستنيم إليه أو أتقرب به غير رسول الله ، هو رباني صغيرا وبوأني كبيرا ، وكفاني العيلة وجبرني من اليتم ، وأغناني عن الطلب ووقاني المكسب ، وعال لي النفس والوالد والاهل ، هذا في تصاريف أمر الدنيا ، مع ما خصني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عز وجل ، فنزل بي من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مالم أكن أظن الجبال لوحملته عنوة كانت تنهض به ، فرأيت الناس من أهل بيتي ما بين جازع لا يملك جزعه ، ولا يضبط نفسه ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به ، قد أذهب الجزع صبره وأذهل عقله وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع ، وسائر الناس من غير بني عبدالمطلب بين معز يأمر بالصبر ، وبين مساعد باك لبكائهم جازع لجزعهم ، وحملت نفسي على الصبر عند وفاته بلزوم الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ووضعه في حفرته وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه ، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة ولا هائج زفرة ولا لاذع حرقة ولا جزيل مصيبة ، حتى أديت في ذلك الحق الواجب لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله علي ، وبلغت منه الذي أمرني به واحتملته صابرا محتسبا ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الثانية يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني في حياته على جميع امته ، وأخذ على جميع من حضره منهم البيعة والسمع والطاعة لامري ، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب ذلك ، فكنت المؤدي إليهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره إذا حضرته والامير على من حضرني منهم إذا فارقته ، لا تختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شئ من الامر في حياة النبي صلى الله عليه وآله ولا بعد وفاته ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اسامة بن زيد عند الذي أحدث الله به من المرض الذي توفاه فيه ، فلم يدع النبي صلى الله عليه وآله أحدا من أفناء العرب ولا من الاوس والخزرج وغيرهم من سائر الناس ممن يخاف على نقضه ومنازعته ولا أحدا ممن يراني بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلا وجهه في ذلك الجيش ، ولا من المهاجرين والانصار و المسلمين وغيرهم والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتصفو قلوب من يبقى معي بحضرته ، ولئلا يقول قائل شيئا مما أكرهه ، ولا يدفعني دافع من الولاية والقيام بأمر رعيته من بعده ، ثم كان آخر ما تكلم به في شئ من أمر امته أن يمضي جيش اسامة ولا يختلف عنه أحد ممن أنهض معه ، وتقدم في ذلك أشد التقدم وأوعز فيه أبلغ الايعاز وأكدفيه أكثر التأكيد ، فلم أشعر بعد أن قبض النبي صلى الله عليه وآله إلا برجال من بعث اسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم وأخلوا بمواضعهم وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم والسير معه تحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي أنفذه إليه ، فخلفوا أميرهم مقيما في عسكره وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضا إلى حل عقدة عقدها الله عز وجل لي ورسوله في أعناقهم فحلوها ، وعهد عاهدوا الله ورسوله فنكثوه ، وعقدوا لانفسهم عقدا ضجت به أصواتهم واختصت به آراؤهم من غير مناظرة لاحد منا بني عبدالمطلب أو مشاركة في رأي أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي ، فعلوا ذلك وأنا برسول الله مشغول وبتجهيزه عن سائر الاشياء مصدود، فإنه كان أهمها وأحق ما بدئ به منها ، فكان هذا يا أخا اليهود أقرح ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية وفاجع المصيبة وفقد من لا خلف منه إلا الله تبارك و تعالى ، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتصالها ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين, فقال عليه السلام : وأما الثالثة يا أخا اليهود فإن القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذرا في كل أيامه ويلزم غيره ما ارتكبه من أخذ حقي ونقض بيعتي ، ويسألني تحليله ! فكنت أقول : تنقضي أيامه ثم يرجع إلي حقي الذي جعله الله لي عفوا هنيئا من غير أن احدث في الاسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثا في طلب حقي بمنازعة ، لعل فلانا يقول فيها نعم وفلانا يقول لا ، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل ، و جماعة من خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ودينه الاسلام يأتوني عودا وبدء وعلانية وسرا فيدعوني إلى أخذ حقي ، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدوا إلي بذلك بيعتي في أعناقهم ، فأقول : رويدا وصبرا قليلا لعل الله يأتيني بذلك عفوا بلا منازعة ولا إراقة الدماء ، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وطمع في الامر بعده من ليس له بأهل ، فقال كل قوم : منا أمير ! وما طمع القائلون في ذلك إلا لتناول غيري الامر ، فلما دنت وفاة القائم وانقضت أيامه صير الامر بعده لصاحبه فكانت هذه اخت اختها ، ومحلها مني مثل محلها ، وأخذا مني ما جعله الله لي ، فاجتمع إلي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله من مضى رحمه الله ومن بقي ممن أخره الله من اجتمع فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا في اختها ، فلم يعد قولي الثاني قولي الاول صبرا واحتسابا و يقينا وإشفاقا من أن تفنى عصبة تألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله باللين مرة وبالشدة اخرى و بالبذل مرة وبالسيف اخرى ، حتى لقد كان من تألفه لهم أن كان الناس في الكر و الفرار والشبع والري واللباس والوطاء والدثار ، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلا الجرائد وما أشبهها ، ولا وطاء لنا ولا دثار علينا [ و ] يتداول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا ، وتطوي الليالي والايام جوعا عامتنا ، وربما أتانا الشئ مما أفاء الله علينا وصيره لنا خاصة دون غيرنا ونحن على ما وصفت من حالنا فيؤثر به رسول الله صلى الله عليه وآله أرباب النعم والاموال تألفا منه لهم ، فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألفها رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحملها على الخطة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجائها ، لاني لو نصبت نفسي فدعوتهم إلى نصرتي كانوا مني وفي أمري على أحد منزلتين : إما متبع مقاتل وإما مقتول إن [ لم ] يتبع الجميع ، وإما خاذل يكفر بخذلانه إن قصر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي ، وقد علم أنني منه بمنزلة هارون من موسى محل بهم في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحل قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته ، ورأيت تجرع الغصص ورد أنفاس الصعداء ولزوم الصبر حتى يفتح الله أو يقضي بما أحب أزيد لي في حظي وأرفق بالعصابة التي وصفت أمرهم ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) ولو لم أتق هذه الحالة يا أخا اليهود ثم طلبت حقي لكنت أولى ممن طلبه لعلم من مضى من أصحاب رسول الله ومن بحضرتك منهم بأني كنت أكثر عددا وأعز عشيرة وأمنع رجالا وأطوع أمرا وأوضح حجة وأكثر في هذا الدين مناقب وآثارا لسوابقي وقرابتي ووراثتي فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها ، والبيعة المتقدمة في أعناقهم ممن تناولها ، ولقد قبض محمد عليه السلام وإن ولاية الامة في يده وفي بيته لا في يد الاولى تناولوها ولا في بيوتهم ، ولاهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا أولى بالامر من بعده من غيرهم في جميع الخصال ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الرابعة يا أخا اليهود فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها عن أمري ، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي ، لا أعلم أحدا ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ولا يطمع في الامر بعده سواي ، فلما أن أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله ولا أمر كان أمضاه في صحة من بدنه لم أشك أني قد استرجعت حقي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها ، والعاقبة التي كنت ألتمسها وأن الله سيأتي بذلك على أحسن ما رجوت وأفضل ما أملت ، فكان من فعله أن ختم أمره بأن سمى قوما أنا سادسهم ولم يستوفي بواحد منهم ، ولا ذكر لي حالا في وراثة الرسول ولا قرابة ولا صهر ولا نسب ، ولا لواحد منهم مثل سابقة من سوابقي ولا أثر من آثاري ، وصيرها شورى بيننا وصير ابنه فيها حاكما علينا ! وأمره أن يضرب أعناق النفر الستة الذين صير الامر فيهم إن لم ينفذوا أمره ! وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبرا ، فمكث القوم أيامهم كلها كل يخطب لنفسه وأنا ممسك عن أن سألوني عن أمري ، فناظرتهم في أيامي وأيامهم وآثاري وآثارهم ، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم ، وذكرتهم عهد رسول الله إليهم وتأكيد ما أكده من البيعة لي في أعناقهم ، دعاهم حب الامارة وبسط الايدي والالسن في الامر والنهي والركون إلى الدنيا والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله لهم ، فإذا خلوت بالواحد ذكرته أيام الله وحذرته ما هو قادم عليه وصائر إليه التمس مني شرطا أن اصيرها له بعدي ! فلما لم يجدوا عندي إلا المحجة البيضاء والحمل على كتاب الله عز وجل ووصية الرسول وإعطاء كل امرئ منهم ما جعله الله له ومنعه ما لم يجعل الله له ، أزالها عني إلى ابن عفان ! رجل لم يستو به وبواحد ممن حضره حال قط فضلا عمن دونهم ، لا يبدر التي هي سنام فخرهم ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله بها رسوله ومن اختصه معه من أهل بيته ، ثم لم أعلم القوم أمسوا من يومهم ذلك حتى ظهرت ندامتهم ونكصوا على أعقابهم وأحال بعضهم على بعض ، كل يلوم نفسه ويلوم أصحابه ، ثم لم تطل الايام بالمستبد بالامر ابن عفان حتى كفروه وتبرؤوا منه ، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله على هذه يستقيلهم من بيعته ويتوب إلى الله من فلتته ، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اختها وأفظع وأحرى أن لا يصبر عليها ، فنالني منها الذي لا يبلغ وصفه ولا يحد وقته ، ولم يكن عندي فيها إلا الصبر على ما امض وأبلغ منها ، ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كل راجع عما كان ركب مني ! يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقي ، ويؤتيني صفقته وبيعته على الموت تحت رايتي أو يرد الله عزوجل علي حقي ، فوالله يا أخا اليهود ما منعني إلا الذي منعي من اختيها قبلها ورأيت الابقاء على من بقي من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها ، وعلمت أني إن حملتها على دعوة الموت ركبته ، فأما نفسي فقد علم من حضر ممن ترى ومن غاب من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أن الموت عندي بمنزلة الشربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدى ، ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله عز وجل ، فأنزل الله فينا "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب : 23]" حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدلت تبديلا .
وما سكتني عن ابن عفان وحثني على الامساك إلا أني عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه بما لن يدعه حتى يستدعي الاباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الاقارب ، وأنا في عزلة ، فصبرت حتى كان ذلك ، لم أنطق فيه بحرف من ( لا ) ولا ( نعم ) ثم أتاني القوم وأنا علم الله كاره لمعرفتي بما تطاعموا به من اعتقاله الاموال والمرح في الارض ، وعلمهم بأن تلك ليست لهم عندي ، وشديد عادة منتزعة فلما لم يجدوا عندي تعللوا الاعاليل ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ فقالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما الخامسة يا أخا اليهود فإن المتابعين لي لما لم يطمعوا في تلك مني وثبوا بالمرأة علي وأنا ولي أمرها والوصي عليها ، فحملوها على الجمل وشدوها على الرحال ، وأقبلوا بها تخبط الفيافي وتقطع البراري ، وتنبح عليها كلاب الحوأب وتظهر لهم علامات الندم في كل ساعة وعند كل حال ، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاولى في حياة النبي صلى الله عليه وآله ، حتى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم ، طويلة لحاهم ، قليلة عقولهم ، عازبة آراؤهم ، جيران بدو ووراد بحر ، فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم من غير علم ، ويرمون بسهامهم بغير فهم ، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلة المكروه ممن إن كففت لم يرجع ولم يعقل وإن أقمت كنت قد صرت إلى التي كرهت ، فقدمت الحجة بالاعذار والانذار ، ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها ، والقوم الذين حملوها على الوفاء ببيعتهم لي والترك لنقضهم عهد الله عز وجل في ، وأعطيتهم من نفسي كل الذي قدرت عليه ، وناظرت بعضهم فرجع ، وذكرت فذكر ، ثم أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلا جهلا وتماديا وغيا ، فلما أبوا إلا هي ركبتها منهم فكانت عليهم الدبرة وبهم الهزيمة ولهم الحسرة وفيهم الفناء والقتل ، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بدا ، ولم يسعني إذ فعلت ذلك ، وأظهرته آخرا مثل الذي وسعني منه أولا من الاغضاء والامساك ، ورأيتني إن أمسكت كنت معينا لهم علي بإمساكي على ما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الاطراف وسفك الدماء وقتل الرعية وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كل حال كعادة بني الاصفر ومن مضى من ملوك سبأ والامم الخالية ، فأصير إلى ما كرهت أولا آخرا ، وأهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ، ولم أهجم على الامر إلا بعد ما قدمت وأخرت ، وتأنيت وراجعت ، وأرسلت وسافرت ، وأعذرت وأنذرت ، وأعطيت القوم كل شئ التمسوه بعد أن أعرضت عليهم كل شئ لم يلتمسوه ، فلما أبوا إلا تلك أقدمت عليها ، فبلغ الله بي وبهم ما أراد ، وكان لي عليهم بما كان مني إليهم شهيدا ثم التفت إلى أصحابه فقال : أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السادسة يا أخا اليهود فتحكيمهم ومحاربة ابن آكلة الاكباد وهو طليق ابن طليق ، معاند لله عز وجل ولرسوله والمؤمنين منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله إلى أن فتح [ الله ] عليه مكة عنوة ، فأخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده ، وأبوه بالامس أول من سلم علي بإمرة المؤمنين ، وجعل يحثني على النهوض في أخذ حقي من الماضين قبلي ، ويجدد لي بيعته كلما أتاني ، وأعجب العجب أنه لما رأى ربي تبارك وتعالى قد رد إلي حقي وأقره في معدنه وانقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعا وفي أمانة حملناها حاكما كر على العاصي بن العاص فاستماله فمال إليه ! ثم أقبل به بعد إذ أطمعه مصر! وحرام عليه أن يأخذ من الفئ دون قسمه درهما و حرام على الراعي إيصال درهم إليه فوق حقه ، فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأها بالغشم فمن بايعه أرضاه ومن خالفه ناواه ، ثم توجه إلي ناكثا علينا مغيرا في البلاد شرقا وغربا ويمينا و شمالا ، والانباء تأتيني والاخبار ترد علي بذلك ، فأتاني أعور ثقيف فأشار علي أن اوليه البلاد التي هو بها لاداريه بما اوليه منها ! وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا لو وجدت عند الله عز وجل في توليته لي مخرجا وأصبت لنفسي في ذلك عذرا ، فأعلمت الرأي في ذلك وشاورت من أثق بنصيحته لله عز وجل ولرسوله ولي وللمؤمنين فكان رأيه في ابن آكلة الاكباد كرأيي ، ينهاني عن توليته ويحذرني أن ادخل في أمر المسلمين يده ، ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا ، فوجهت إليه أخا بجيلة مرة وأخا الاشعريين مرة ، كلاهما ركن إلى الدنيا وتابع هواه فيما أرضاه ! فلما لم أره يزداد فيما انتهك من محارم الله إلا تماديا شاورت من معي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله البدريين والذين ارتضى الله عزوجل أمرهم ورضي عنهم بعد بيعتهم وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين فكل يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه مما نالت يده ، وإني نهضت إليه بأصحابي ، انفذ إليه من كل موضع كتبي واوجه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عما هو فيه والدخول فيما فيه الناس معي ، فكتب يتحكم علي ويتمنى علي الاماني ، ويشترط علي شروطا لا يرضاها الله عزوجل ورسوله ولا المسلمون ، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواما من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أبرارا ، فيهم عمار بن ياسر وأين مثل عمار ؟ والله لقد رأيتنا مع النبي وما تقدمنا خمسة إلا كان سادسهم ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم ! وانتحل دم عثمان ، ولعمر والله ما ألب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلما لم اجب إلى ما اشترط من ذلك كر مستعليا في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر ، فموه لهم أمرا فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عزوجل بعد الاعذار والانذار ، فلما لم يزده ذلك إلا تماديا وبغيا لقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على اعدائه وعدونا ، وراية رسول الله صلى الله عليه وآله بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل اقاتلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب ، فركب فرسه وقلب رايته ! لا يدري كيف يحتال ، فاستعان برأي ابن العاص ، فأشار إليه بإظهار المصاحف ورفعها على الاعلام والدعاء إلى ما فيها ، وقال : إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وبقيا وقد دعوك إلى كتاب الله أولا وهم مجيبوك إليه آخرا فأطاعه فيما أشار به عليه ، إذا رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء خيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ، فظنوا أن ابن آكلة الاكباد له الوفاء بما دعا إليه ، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه ، وإنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويت شئت أو أبيت ! حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان ! وادفعوه إلى ابن هند برمته ! فجهدت علم الله جهدي ولم أدع علة في نفسي إلا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الاشتر وعصبة من أهل بيتي ، فو الله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان وأومأ بيده إلى الحسن والحسين عليهما السلام فينقطع نسل رسول الله وذريته من امته ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده إلى عبدالله بن جعفر ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما فإني أعلم لو لا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عزوجل ، فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الامور وتخيروا الاحكام والآراء وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ! وما كنت احكم في دين الله أحدا إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن احكم رجلا من أهل بيتي أو رجلا ممن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه ، وأقبلت لا اسمي أحدا إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه وأقبل ابن هند يسومنا عسفا وما ذلك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكم تبرأت إلى الله عز وجل منهم ، وفوضت ذلك إليهم ، فقلدوه امرء فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الارض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندما ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ! قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عهد إلي أن اقاتل في آخر الزمان من أيامي قوما من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بحلافهم علي ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية فيهم ذو الثدية يختم لي بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لانفسهم من ذلك مخرجا إلا أن قالوا : كان ينبغي لاميرنا أن لا يتابع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقد كفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطأ وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ! فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لا حكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة واخرى بحروراء واخرى راكبة رأسها تخبط الارض شرقا حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتلته ، فخرجت إلى الاوليين واحدة بعد اخرى أدعوهم إلى طاعة الله عز وجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعها غير ذلك ، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عز وجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لو لا ما فعلوا لكانوا ركنا قويا وسدا منيعا ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ، ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبد منهم والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع اختيها والاحتذاء على مثالهما ، وشرعت في قتل من خالفها من المسلمين ، وتتابعت إلي الاخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة اوجه السفراء و النصحاء ، وأطلب العتبى بجهدي بهذا مرة وبهذا مرة وأومأ بيده إلى الاشتر والاحنف بن قيس وسعيد بن قيس الارحبي والاشعث بن قيس الكندي فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ، له ثدي كثدي المرأة ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال ، أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام قدوفيت سبعا وسبعا يا أخا اليهود وبقيت الاخرى واوشك بها فكان قد.
فبكى أصحاب علي عليه السلام وبكى رأس اليهود ، وقالوا : يا أميرالمؤمنين أخبرنا بالاخرى فقال : الاخرى أن تخضب هذه وأومأ بيده إلى لحيته من هذه وأومأ بيده إلى هامته ,قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دار إلا خرج أهلها فزعا ، وأسلم رأس اليهود على يدي علي عليه السلام من ساعته ، ولم يزل مقيما حتى قتل أميرالمؤمنين عليه السلام واخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل راس اليهود حتى وقف على الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه ، فقال له : يا أبا محمد اقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي انزلت على موسى عليه السلام أن هذا أعظم عند الله عز وجل جرما من ابن آدم قاتل أخيه ومن القدار عاقر ناقة ثمود .
(بحار الأنوار:ج38: 167)